يا سيدي إنّهُ «ا لبلوز » !.
أنيس الرافعي
هي لا تعدو أن تكون مجرّد شهادة متواضعة ووجيزة في حق صاحب قــدّ إبداعيّ فارع، وتجاه منجز عريض هو الآن تركة ( أو شركة ) شعريّة نفيسة وعابرة للأرواح.
هي فحسب شرط المحبّة من إدمان الصداقة ، أو بالحريّ هي شطر الصداقة من مشتل المحبة . وهما معاً في ميزان العِشرة سيّان . شبيهان كزنبقتين في حقل بعيد ولصيقان كالعَيْنِ إلى جفنها .
هي ، إذن ، شهادة لا غير ، ولا تطلب لنفسها مقام التقديم أو مرتبة الإعلاء .
أليس كلّ تقديم للشعر محض تقليص له ، مادام وجهه الكميّ ومقترحه الجماليّ ونسغه الجوهريّ غير قابل للاختزال ، ومستعصيّاً على الإحاطة برهاناته القصيّة ؟ .
وما هو الإعلاء في الشعر إن لم يكن طريقة أخرى لابتكار الهاوية ودفع الحدّ وراء نفسه ، ليصبح خارج اليقين شأن ما سلخ أحمد لَمْسيَّح ما يناهز عمراً بأتَمّه في سبيل إعماره على امتداد الأراضي الفارغة وغير المأهولة للقصيدة الزجليّة المغربيّة المعاصرة ( له) ؟.
وكي أخرج سريعاً من خرم التبرير إلى رحابة الكشف ، دعوني أَقُـلْ للقارئ المفترض لديوان « توهّم أنك عشقت » ، إنّه مُقْـدِمٌ على السباحة في لجّة حلم وحيد بخمس موجات عنيفة ، وسيحتاج لا محالة إلى أنفاس غفيرة حتّى يصل إلى شاطئ المعنى ، وطوق نجاته الوحيد ليس بالتأكيد نجمة هادية أو سفينة عابرة ، وإنّما فراشة « شوانغ تسو» المطوافة فوق رأسه كالبياض في أصل الأظافر ، و التي تقترح عليه في كلّ مرّة ، وهو يخوض هذه المعركة غير المتكافئة مع الموج الرافع الخاسف اللاعب بغضب ، الارتطام بسرعة مفرطة بحلم آخر قادم لتوّه من الجهة المعاكسة للمغزى .
قد يقول قائل ما الداعي لكلّ هذا الإلغاز ؟ وما دخلك أنتﹶ أيها السارد الذي يقف على الضفة في كلّ هذا الغمر ؟ إنّه « الطرزﹸ» يا « حنيني » ! يا سيدي إنّه « البلوز »!. إنّه «الطرز» على إيقاع « البلوز» !. فأحمد لمسيَّح سارد أيضاً على نهجه ، وهو لايرخي العنان هكذا سدى للتحبير والترصيص ، بل يتحدّى في كلّ عمل شعريّ وُحوشاً جديدة ، ويضع دائماً العبارة في نصابها كما لو كان يقيسها ﺒِـ « ميزان الماء » . في كلّ تجربة يشيّد منطقة شعريّة ، ويجعل هواءاً غريباً يمرّ منها .
لماذا لم تكتمل السيمفونية بحركاتها الست ، واختار أحمد لمسيَّح أن يضخّ في رئة المتلقي أنفاسه الخمسة فقط ، ثم أحجم عن الزفير ؟ أهي منقوصة ، أم يتوجّب أن تكون
كذلك نظير كلّ جميل ساحر ، نظير ما فعل المخرج الروسي « نكيتا ميخايلوف » عندما
حـقّـق سينمائـيّاً مسرحية « بلاتونوف » للعظيم « أنطوان تشيخوف » ، وأسماها من فرط مااستعصت عليه ﺒِـ « المقطوعة غير المكتملة من أجل البيانو الميكانيكيّ » ( 1976)؟ .
1976 ! أليس هو تاريخ ميلادي ، أليس هو تاريخ إصدار أول ديوان لأحمد لمسيّح بعنوان « رياح ... التي ستأتي »؟ وما علاقتي أنا بأحمد لمسيّح وبأنطوان تشيخوف ؟ فمنذ ذاك التقويم « المكعب » من شدّة تَحابُـك المصائر ، و « الطرّازﹸ » لم ينْهِ بعدُ توشية وتزويق ثوب العدم .
إنّ أحمد لمسيّح لا يريد أن يَلْبَـس القصيدة ، بل يتوق لأن يقطُنها . يواظب على ارتيادها في سائر الأيام وشتّى الفصول . يقتني لنوافذها أبهى الستائر ويتعهّد أبوابها بأنصع الطلاءات . يحرس أدنى نأْمة أو همسة أو نسمة في أرجائها ويبدّد فحم السهر على الأصص والمزهريات . إنّه هناك دائماً كعين الله وبركة الأولياء ليرعى فقه الصمت الذي يرتّل بين الغرف . لا يخرج إلاّ لماماً ليجلب لها المزيد من الهواء والضوء والفاكهة والعشق والوطن .
فكلّ ما يلمسه أحمد لمسيّح يصير مغربياً . وكلّ ما يلمس أحمد لمسيّح يصبح زجلاً شأن نقرة عصا الساحر على قبعته لتسفر الدهشة في كلّ مرّة ما لن تتوقعه . هل كنتَ تتوقعُ « زراعشق »؟ أو « حلْمة ( بيضا ) ء »؟ أو « من رمادو خرجت فراشة »؟ .
إنّه زجل حِرفيّ متخصّص في « الرافيناج » ، يعـرف القاعدة جيـّداً ، لكنّه يتعمّد كسر
عمودها الفـقـريّ على نحو لا يقلّ جـودة . زجلاً رقـراقـاً ريّاناً مثل أصابع تـتـفـوّق في رسـم
نفسها . زجلاً رقيقا رشيقاً على نحو لا يحتمل ، دون ما أدنى كلمة ناقصة أو أخرى فائضة
كمن يكتب ليصقل غبش المرايا أو ليشحذ الحجر الكريم على ظهر المِسَن . زجلاً كريماً كمسقط شلال . القصائد . كلّ « القصايد » لا تستطيع اللحاق به . لا يني ينهمر ويعلو
ويعدو ولبقية الشعر عكازتان . زجلاً جليلاً شيمته تطويع الخيال وإعادة إنتاج المؤسطر
ونفخ النار في المطروح جانباً كحدوس مقصيّة للكتابة الشعريّة . زجلاً يمشي بتواضع الكبار ليحفر مثل حيوانات القندس طريقه الملكيّ عبر الجداول الصغيرة الغامضة التي قلّما تلتفت إلى لمعان النهر. زجلاً مغربياً أصيلاً صنع بأطـراف الكائـن الوطنيّ وبنبرة صوته التي تحمل ألم الطين والأخوة الناشبة بين جبلين .
أيها القارئ البهيّ ، توهّم أني قد جاوزت قدر الشهادة ، وسقف الإعجاب ، إذ هي المرّة الأولى والأخيرة التي سوف أكتب فيها عن أحمد لمسيّح ، لكن أنتﹶ ، رجاء ، لا تتوهّم شيئا عندما تقرع صدر الكلمات ، وتضع قدميك على الأرض الصلبة لهذا الديوان الماتع ، فالنــزهــة مضمونـة في اتـجـاه بهــجـة اكــتــشـاف شـاعــر حـقيـقيّ يكــتـب دائـماً بـيديـن مبصرتـين، لا كليلتين! .





