ليس الأصدقاء من نتقاسم معهم الماء و إن
لوّن ، ليس هم من نتوالج معهم . ولكن من نشترك معهم العطش والتحالل . ليسوا
هم مجرد مرآة نسقط عليها في أصفى حالات الصدق أوهامنا الباهتة، و تفتعل علائق
عنكبوتية نختنق فيها، و الصفح سيد إذا كانت كبريائيا، آتيا من جمال الحكمة و
رونقها...تلك إشارتي.
الأصدقاء من نتواحد معهم كتوائم من ماء، نتوحد عرقا أو دمعا أم ماء الروح
المنحدر من خيط الريح المستسحب إلى أمواج القلب الهادر نبضات معتصرة من
نور العشق.
الخلة أن نختلف و نأتلف لنتوحد جسدا ينبض بالاختلاف الخلاق. قلت يوما: إني
يتيم إذا غاب رفاقي. و الحقيقة أن اليتم في أن أسير، و أسير، و لا طريق. و
لأني محظوظ، فأصدقائي يعتبرون أنهم مسئولون على سلامتي، و إقناعي بأني محكوم
بالحياة.. و لا حياة للفرد بدون أن تكتمت بالآخر، هذا الآخر نص منفلت و آسر،
قارىء يمد يده لأحشاء النص كي يخصبه بخياله المبدع، طيف يمسح جبهتي أثناء
"جهاد الكتابة"، و من تتناصص نصوصنا المبتذلة في الشفوي، أو تحدق أثناء
الكتابة للتحريض أو الشغب، و في أقصى حالات التصافي تكون عكازا للطريق...إنه
طريق محفوف بالغموض و الرثاء الذاتي، للامساك بظل كلمة... و ليس كل الكلمة...
لا اعرف تغنيج غير الكلمات المتوارية، و المتمنعة، و العصية، لأنسج منها
خلايا نص يملأ الروح و الوجدان ربما ينكتب بعضا منه بالجسد و أمحوه
بالكلام..ربما يعبر في الحلم ظله..
ربما في هذا الهذيان الباطني، يتفتت صوته، و ربما هو الجينة التي تتوارثها
النصوص، و تظل سرية و حية، ربما كل النصوص هي تنويعات و تمرينات لذلك النص
المتوقع و المطارد أبدا للقبض عليه حيا أو ميتا،.. ربما يتدثر بهذه "الربما".
أنا الغاضب مني علي، كيف أنحدر إلى قلبي و أنا يقظ؟ كيف هي الذات على ذاتي؟
كيف أكون ماءا للنرجسة و أنا جرح؟ ماذا تفعل النرجسة اذا غار الماء؟.. أنا..
أنا مجرد سراب لا يحقق غير الوهم في زمن العطش الروحي. كيف أعاتب الضوء و
أقول له: أعد لي ظلي و أنا الذي برأه، فأغوته نملة فانحنى حتى قارب جبهته
الثرى، بينما النظر إلى الجبل يجعل هامته منتصبة و نظره نحو الأعلى؟
إني من بكى ظله الهارب إلى الأقصى ثم تشظى.
لكن، هل نحيا من غير كلام؟ قد يكون الكلام ستارا أعمى يحمي جنة الصمت... لذلك
أفضل أن أكون حرا في الجحيم على أن أكون عبدا في النعيم.
يقولون ان البوح يبيح الحتف، و لذلك فالقارئ الفطن يهتدي الى ما لا ينقال،
فالحياة هي ما يكمن و يسر ما لا ينفضح و يظهر. الحقيقة هي ما لا ينقال.
الكلام قناع طامس، ما يقال هو طريق فقط إلى ما نريد قوله هو في حقل البياض
بياض.. العبارة تقتل العبارة لتحيا. و القول يغوي المهجور منه في الآخر، كي
يركض لمؤانسته، و العين شرك و باب إلى القلب، و اللسان مدع و مربك، و لا صفاء
الا في الصمت، و ما دونه هو طواف حول الجوهر المنفلت أبدا منا .. الصمت
ستار الكنز ، وما دونه بذار .
سأستنجد : دعوني أصمت ، فأعينوني . لأن الكلام يصطاد الكلام .. لأ، الكلام
وهم يقيد الكلام . يفتنه حتى يقبض عليه فيمتص نسغه ويذبله ...
حكاية الكتابة مثل حكاية ملكة النحل واليعسوب ، يتبادلان العشق ، وفي لحظة
الذروة تغتاله . هو يعرف قدره- الموت ،ويتقاتل من أجل أن يموت عاشقا .
موته يترجم حكما ، وترجم عسلا . ولكن لاعشق بدون محو .. بدون حلول ، بدون أن
نمنح للحياة من موتنا استمرارا .
إننا نحترق .. نتبخر ،لنكون خلايا غيمة ستمطر الحلم ، وعندما يأتي الزرع
سنكون دموعا فرحة في تربة ساهمنا في تقليبها ، سندفن حتما ، ولكن حلمنا
سيورق .... فلا بأس أن نكون حطب المرحلة ، وليس من عزاء غير نكون بصمة في
خارطة الروح .. كل حياة تمضي ، وكل موت يأتي ، إننا نبدأ موتنا يوم نولد ،
لكن هناك حياة تتحرك للموت المنتهى ، وهناك موت تنهض للحياة ، والكتابة
تغتال العدم بالموت ، لأنها لا تستجيب لغير حياتها ، تستدعي
الحـر من الكلمات لتقبل أسـر الصور والخروقات . والصور تحيا بالجنون والحرية
، ولكن نبضاتها تنوّت الحياة والانعتاق ،والخلق بخيال يتأسس على
اغتيال الألفاظ وانعزالها متوارية في التداول اليومي ،
لتستمد قناع البقاء ، وتمكن متسرعي الإنعاض الإبداعي
من وهم امتلاكها ، حتى لا ينهكوها بالحب الركيك ، وتحافظ على
بكارتها في انتظار أن يأتي العاشق الآثم فيطير بها منفلتا
من المشاعة ، وجاهلية الأيديولوجيا المسيجة بترعيب الذات ،
وتغييب الإنصات للجنون المقموع في القعر ، والذي لا نسمح له - غالبا –
بالتعبير إلا في السرية المعتمة ، حتى أصبح الفرد منا يمارس السرية مع نفسه
....
أعتبر الصمت عبادتي ، والثرثرة تمويها عن الباطني كي يتسلطن في العتمة نورا ،
هل تدعوني أصمت ؟
يسهر الشاعر للإمساك ، ليس بجسد الصورة كله ، ولكن بظله ، بأثره
. وقد يقضي نحبه وهو يمد يده حول عـنق المعنى واهما ،
بينما هو يضغط حول عنقه هو .... قد يقضي الليل وهو يقلب جيولوجيا
الذاكرة ، عله يتحرر من صدمة العـنـّة التي أصابت قلمه .. قد تكون لفظة
واحدة هي كلمة السر التي سيفتح بها " سمسم الخلق " مغالق الكهف حيث
فاكهة الخيال .
والكلام خدعة ... هو خطاب لإيقاع الغير في شرك الفتنة والإقناع .. هو لعبة
القط والفأر المتاخطبين ، حتى المتلقي يخفي فخاخه ، حتى
التصفيق خدعة وغواية للشاعر ليقع في أسر المتلقي ، لكن
الشاعر هو من ينفلت ... لايخدع ولا ينخدع .
في اللغة والخيال وطن للشاعر ، والشاعر قبل أن يحلق ،
ينطلق من أرض ليعود إليها ، فممّ تشكل جناحا الطائر
، وماذا كان يشغله ؟
1- اندماج العفوية والمقصدية : مراودة العصي ، وتسريح المتواري
في قرار المنسي ، الذي نتوهم أن اللا شعور ذوّبه ، لكن حياة
الشعر في أن يمتص هذا الكامن والخفي ، فقد تكون أفعالنا رموزا له ،
والشعر إشارات تحيل إلى المنسي أو المقصي من دواتنا .
2- كيف لا أكون ذاتيا وأنا أمتح من تجارب ذاتية ؟
3- كيف ألتقط اليومي والعابر ، وأفتت السطحي ، كي أعانق الجوهري ؟
4- هل الحديث عن الذات تشرنق وانفصال عن العالم الخارجي ؟ وهل معانقة الخارجي
محو وتخل عن الذات ؟
5- ثنائيات .. ثنائيات . هكذا نلهو بمصيرنا : " الحياة
والموت ، الليل والنهار ، الامتلاك والفقد ، الالحب والفشل ،
الحلم والحقيقة ، الوهم والواقع ، البوح والكتمان ، العشق والحاجة ، الجنون
والمنطق ... إلخ " . لكن بأي ميزان نزن الوجود ؟ ولأي وجود
نهيئ مقاييسنا ؟ واختلاس الاسثتنائي ومنطقة الظل هما كل ما
نعتبره خالصا . فلنتأمل الصلاة ، في كل الأديان : هي عزلة
وانفصال ، هي رحلة وحلول ، هي إفقاد الذات ذاتها كي تكتمل
بالآخر ... الكتابة إذا لم تصل حد العبادة فهي استمناء .
لنتأمل الذات وهي متعددة بتناقضاتها التي لا توجد إلا بها . إن
العزلة أحيانا هي تجميع الكون في لحظة تأمل
حميمي .
6- كيف ينمحي السيري في المجاز ؟ وكيف يتماهى مع الغيري عبر
استضافة الصور ؟
بعض ما تقدم يسعفني - مؤقتا – لولوج استكمال طقوس قلق
الكتابة بعد إيقاظ الذات من الخراب كي تبوح ، ولو في حشمة
ببعض مما هي فيه ، مما تعانقه ، مما تتمارأ معه ( من
المرآة ) ، أو مما هو ريشة من جناحها ولا تستطيع أن تحلق
إلا به ، فتسعى إليه ولو كان سرابا .
الشاعر يسعى إلى اللغة الملتبسة ليخلخل الساكن ، هو
سمكة تبدع ماءها لتسبح فيه . وإذا ما كان الماء
راكدا سيستنقع ويتعفـّن .
هذه قناعتي ولا تلزم أحدا ... هذا حتفي ولا أنتظر انتحار
غيري من أجلها.
أعانقكم ، وأرجوكم أن تحموني من حبكم ، ولا تنقذوني من
التيه في شساعة الحلم ، ولا ترموني بلهيب اليقظة
إلا قبل أو بعد الشعر ، لا تدعوني أصحو من غيابي إلا
بعد أن أصل إليكم سالما وأتمكن من عناقكم .. عناقكم جميعا .
الكلمة التي ألقيت في حفل التكريم الذي نظمته الرابطة المغربية للزجل يوم 19 – 12 – 2000
المصدر : الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي – عدد 05 يناير 2001